بعقوبة- واع- آية منصور
“بحثت عائلتي عن أطرافي المفقودة لأيام، فيما كنت أرقد في المستشفى، جلبها جارنا لنا بعد ثلاثة أيام، سقطت على سطح منزلهم بفعل قوة الانفجار. سألت والدتي كثيراً وأنا أبكي وأبحث عنها؛ أين أطرافي؟ أين ذهبت يدي؟ وماذا حل بساقيّ؟ تجيبني والدتي: سيرجعها إليك الرب حينما تكبرين، اصبري. لم أتخيل أن فقداني أطرافي سيجعلني بطلة آسيا في تنس المنضدة يوماً ما.
لم يكن سوى يوم عادي، تجلس فيه نجلة عماد (20 عاماً) وهي تنتظر بحماسة عودة والدها المنتسب في الجيش العراقي من العمل. كانت تبلغ أربع سنوات فقط. مدللته وحبيبته، ارتجفت فرحاً عند سماع صوت سيارته وجرت سريعاً، تقول إنه أمر معتاد تفعله كلما يحضر.
هو يجلب الهدايا لها كل مرة، وهي تحب فكرة أن يضعها في حضنه ويبدأ بقيادة السيارة في الحي من أجلها. تلك المرة، لم تستطع رؤية ما أحضر لها، إذ وبمجرد ما حملها، ووضعها في السيارة، قبل أن يستقلها هو، انفجرت عبوة كانت موضوعة من إرهابي لقتل والدها.
طارت يد نجلة اليمنى وساقاها، والهدية. نعود الى الحاضر، وهي تحمل حقيبتها وتتكئ بعكاز على ثانية لتكمل تدريباتها استعداداً لمشاركتها في بارالمبياد باريس اليوم.
تقول نجلة لوكالة الأنباء العراقية (واع): إنها بقيت في مستشفى بعقوبة/ حيث تقيم لأكثر من ستة أشهر، أجرت خلالها عشرات العمليات لأطرافها والشظايا التي اخترقت جسدها الطري من دون رحمة؛ كنت منهارة، نعم صغيرة جداً، لكني أتذكر كل شيء، أنني قبل يوم كنت ألعب في الحي مع صديقاتي، ثم أمرر يدي الباقية الوحيدة على قدمي ولا أشعر بها. أتذكر دموع والدتي فوقي وهو تبلل وجهي، اعتقدت أن هذه الدموع لعلها تنبت في جسدي شيئاً مجدداً، لكن ما أراح قلبي أن والدي لم يتضرر.
هل ينتهي الحلم بانفجار؟
نجاتها من الحادث الإرهابي عام 2008، كان طريقاً مشبعاً بأشواك ممتدة على طوال سنوات دراستها، بالحزن والتحديات، استفسارات لا تنتهي لعائلتها، هل من الممكن أن تعود للركض كما زملائها في المدرسة؟ كان مشهداً جريئاً، أقراني في ساحة المدرسة، فيما أجلس أنا على كرسي يحركه لي أحد من عائلتي، شيئاً يبعث الوجع في روحي، تقابلني أسئلتهم: أين ذهبت أطرافك؟ لم لا تملكين قدمين كما نحن؟ تقول نجلة.
أردت كثيراً ترك المدرسة لأكثر من مرة، لكن جملة أمها “سيعوضك الله” كانت كافية لبدئها محاولات النجاة من آثار البقاء حية في السيارة المفخخة. توضح نجلة التي سرقت منها الحرب أطرافها المهمة، أنها صارت تريد “الانتقام” من الإرهابي بالفوز في الحياة. “بعد انتهاء امتحاناتي النهائية في الخامس الابتدائي، أحضر لي والدي هدية “آيباد”، بالطبع فإن مهمتي الوحيدة فيه أصبحت هي البحث عن رياضات تناسب أشخاص فقدوا 3 أطراف من أصل 4، وأمضيت وقتاً طويلاً أشاهد لاعبين على الكرسي المتحرك، وهم يلعبون تنس المنضدة. قلبي دق وشعرت بشيء ينبض مجدداً في روحي، لكني اكتشفت أن هذه الرياضة غير متوافرة في مدينتي بعقوبة/ وليس هنالك وجود لقاعات تدريبية، تبين نجلة عماد بحديثها.
عانت نجلة ولفترة طويلة من عدم القدرة على استخدام يدها اليسرى. ومع ذلك، تمسك بقوة الكرة، وتضربها نحو الحائط بيدها التي تبدأ معها حياة جديدة، تعود لضربها. وتستمر على هذه الحال فترة. فيُقرع الباب، وتأتي الفرصة التي أبرزت موهبتها وقوتها. تقول: “المدرب حسام حسين، وهو مدرب معروف في ديالى، كان يبحث عن أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، ليرى إن كانوا يستطيعون الدخول في معسكرات رياضية تدريبية.
“من حسن حظي، أنه سألني ما إذا كنت أريد التدرب على تنس المنضدة، فشعرت وكأن جملة أمي قد تحققت فعلاً”.
عادت الى الحائط هذه المرة بتدريب حقيقي، صار هو الخصم، مع التدريب في منزل المدرب لأنه يحتوي على منضدة، كانا هذان المكانان كفيلين بتدريب نجلة لمدة ستة أشهر وجعلها تدخل بشكل مباشر للمشاركة في بطولة العراق لعام 2015 لتحصد فيها المركز الأول وتنضم بشكل مباشر الى المنتخب الوطني، كأصغر لاعبة في العراق بعمر العشر سنوات فقط.
“تبدلت حياتي للأجمل، صحتي النفسية أصبحت أفضل بكثير، كنت صغيرة ولم ألحق للاستمتاع بأطرافي، لكن وجدت من تنس المنضدة متعة توازي شعور ما فقدته “.
من بعقوبة إلى بغداد ثم العالم
وقال نائب رئيس اتحاد اللجنة البارالمبية لؤي السراي لـ(واع):” لطالما حاول والد نجلة، صنع المستحيل من أجلها، إذ وعلى الرغم من عمله، كان يذهب بها بسيارته الى بغداد ويعود الى بعقوبة في اليوم نفسه، بعد انتهاء تدريباتها، وعلى الرغم من كبر سنه في الوقت الحالي، إلا أنه ما زال يجلبها بنفسه من محافظة الى أخرى. نجلة تتدرب لأكثر من أربع ساعات لوحدها، ثم تطلب مساعدة إخوتها وأبيها للتدرب ساعتين معهم، وبالطبع فإنها تحتاج الى القاعات الرئيسة في العاصمة لوجود زملاء كثر ومدربين ستستفيد منهم”.
وأضاف السراي أنه” في البطولة الأولى ، فازت نجلة على لاعبات يغلبن عمرها الكلي، بعمرهن الرياضي مع تنس المنضدة، إنها مثابرة، تأتي الى قاعات التمرين مع مناهجها الدراسية ولم ترسب سنة واحدة، تدرس في فترات الاستراحة. وكانت جميع مشاركاتها الدولية تحدث أثناء دراستها، تمتحن وتحضر الى المطار بكتب جديدة، تنافس اللاعبات، تفوز، ثم تعود الى مدرستها”.
لأكثر من أربع سنوات من اللعب المحلي والدولي، كانت تحصد نجلة الذهب والمراكز الأولى، عن طريق الكرسي المتحرك. حاولت لعشرات المرات صنع أطراف لها، فعلت ذلك في محافظات عدة من العراق، وكانت كل مرة تأتي بنتائج مختلفة؛ الطرف ضيق، أو عريض، قصير، أو جارح، ومسبب للكثير من الندوب.
ما زالت تحتفظ بمحاولاتها الحصول على ساق، من دون أن تشعر بالألم أو أن تبدأ أطرافها بضخ الدماء. يقول لؤي السراي: “قرر الاتحاد الرياضي توفير أطراف مناسبة لها، لتتمكن نجلة وبعد تسع سنوات على إصابتها، من التمرن على بدء حياة جديدة وتخطو الخطوات مرة أخرى”.
لم يكن أمراً هيناً أبداً، آخر مرة مشت فيها نجلة كانت في الرابعة، وفجأة عندما أصبحت في الخامسة عشرة. تقول بحديثها: “فكرت بجميع الذين هم غير قادرين على تحمّل تكاليف شراء الأطراف، إنها باهظة الثمن في العراق، ولا توفر المصانع المحلية أي جودة حقيقية، بخاصة لمن يحترف المجال الرياضي، بل تبدو كأنها عقاب إضافي على ما حصل له”.
بالتأكيد، فإن أفضل محطات نجلة تكمن في فوزها على لاعبات مهمات. إذ أوضحت : أن” أول مرة فزت بها، تمنيت لو أن لي قدمين. لم أستطع القفز لشدة الفرح، فعلت ذلك بيني وبين نفسي من خلال الكرسي المتحرك. بعد تركيب الأطراف، صرت على الأقل، أستطيع أن أرفع يَدَيَ محتفية بالنصر. وتمكنت نجلة بمسيرة لا تزال مبكرة للغاية، من المشاركة في أكثر من 30 بطولة عالمية وعربية، غير تلك المحلية، وحصدت في هذه البطولات جميعها، على المركز الأول أو الثاني، كما كانت أصغر لاعبة تشارك في الألعاب البارالمبية، بعمر الخامسة عشرة، وأصغر لاعبة في تاريخ بطولة آسيا تحصد فضيتها.
الفوز على بطلة آسيا
وأوضح لؤي السراي أن ” نجلة تعرضت للخسارة مرتين من المتربعة على عرش بطولة آسيا لأربع دورات متتالية، وبطلة العالم، اللاعبة لي كونوو، آخرها في بطولة آسيا، وبسببها حصدت الفضية. أخبرتها في المرة الثالثة فيما هي تتدرب بيد وتحاول مسك كتابها لقراءة الامتحانات النهائية بيد ثانية، أنها يجب أن تفوز هذه المرة. كانت حريصة، لا تنام، تتدرب وتقرأ، فلعبت معها في نهائي أسياد آسيا، وتمكنت من النصر عليها بثلاثة أشواط مقابل شوط واحد”، ويضيف أن فوزها في أسياد آسيا، جعلها في المركز الخامس عالمياً”.
وختمت نجلة :”لم أكن خائفة، بل متحمسة لاختبار مهارة تدريباتي مع اللاعبة نفسها التي حرمتني من ذهبية آسيا، قلت في سري، سأنتزع الفوز لأجل السلام في بلدي”.